في شتاء عام ١٩٤٤، شهدت جبال الألب الإيطالية معارك شرسة بين الجليد والنار، حيث كانت ساحة قتال دموية تجمع بين البرد القارس والرصاص الحي. من بين الجنود الذين خاضوا هذه الحرب كان العريف ماركوس هايز، جندي أمريكي أسود يبلغ من العمر ٢٤ عامًا، قادمًا من مدينة برمنغهام بولاية ألاباما. كان يخدم في فرقة المشاة ٩٢ المنفصلة عنصريًا، المعروفة باسم جنود بافالو، وهي وحدة تاريخية للجنود السود في الجيش الأمريكي. لم يواجه ماركوس هايز فقط القوات الألمانية المتحصنة في الجبال، بل واجه أيضًا العنصرية اليومية داخل صفوف جيشه، من نقص الإمدادات الطبية إلى الإهمال المتعمد والإهانات المستمرة. في تلك الظروف القاسية، دوّن ماركوس في مذكراته شكوكه ومخاوفه، معتبرًا أن مهمته ليست مجرد استطلاع، بل فخًا مدبرًا.

في ليلة عاصفة ثلجية اجتاحت الجبال، أُعلن عن استشهاد العريف ماركوس هايز أثناء مهمة استطلاعية منفردة. اعتبرت السلطات الأمريكية أنه فقد بطوليًا في المعركة، فمنحت عائلته علمًا مطويًا بعناية، ووسام القلب الأرجواني، ونجمة برونزية تكريمًا لتضحيته. لمدة خمسين عامًا، حزن أهله على فقيده، متمسكين بقصة رسمية ناقصة، دون أن يعلموا الحقيقة المرة التي دفنت تحت طبقات الثلج. كانت هذه القصة تبدو كغيرها من قصص الحرب العالمية الثانية، حيث يبتلع الجليد الجنود ويحفظ أسرارهم إلى الأبد.

لكن التاريخ له طرقه الخاصة في الكشف عن الحقائق، حتى لو كانت مدفونة تحت عقود من الجليد. في صيف عام ١٩٩٤، ضربت موجة حر غير مسبوقة أوروبا، مما أدى إلى ذوبان الجليد القديم في جبال الألب الإيطالية. على منحدر نائي، عثر مزارع إيطالي يدعى جيوفاني على اكتشاف مذهل: جثة جندي محفوظة تمامًا داخل كتلة جليدية، ترتدي زيًا عسكريًا أمريكيًا من عصر الحرب العالمية الثانية. كان وجه الجندي هادئًا، ملامحه سليمة كأن الزمن توقف عنده، دون أي علامات للتعفن أو التحلل. سرعان ما حددت السلطات هويته: إنه العريف ماركوس هايز، الذي أُعلن مقتله قبل نصف قرن. تحول الاكتشاف إلى صدمة عالمية، ككبسولة زمنية تحمل أسرار حرب لا تزال آثارها حاضرة.
انتشر الخبر كالنار في الهشيم، ووصل إلى الدكتور بن هايز، حفيد ماركوس، وهو مؤرخ عسكري متخصص في تاريخ الحرب العالمية الثانية. لطالما راودته الشكوك حول التقرير الرسمي لوفاة جده، خاصة التناقضات في تفاصيل المهمة الاستطلاعية. سافر بن فورًا إلى إيطاليا، مصممًا على استعادة رفات جده وكشف الحقيقة الكاملة. في معهد الطب الشرعي بمدينة بولزانو، واجه بن جدّه المحفوظ في الجليد، كأنه نائم للتو. لكن نتائج الفحص الشرعي كشفت مفاجآت مذهلة: لم يمت ماركوس بسبب البرد أو التعرض للعوامل الجوية، بل بطلق ناري في ظهره. أظهرت الأشعة السينية رصاصة عالقة قرب عموده الفقري، تتوافق مع سلاح جانبي يستخدمه الضباط الأمريكيون. هذا الجرح يشير إلى خيانة داخلية، لا قتال مع العدو.
الدليل الأقوى جاء من داخل سترة ماركوس: دفتر يوميات جلدي محفوظ بأعجوبة داخل الجليد. قرأ بن الصفحات بدقة، يكتشف قصة عائلته الحقيقية لأول مرة. وثّق ماركوس التمييز العنصري اليومي الذي عاناه الجنود السود: منع الأدوية الحيوية مثل البنسلين والمورفين عنهم عمدًا، بينما يحصل الضباط البيض على الرعاية الكاملة. ألقى ماركوس باللوم على قائده، الملازم بول ديفيس، رجل عنصري طموح يحتقر جنوده السود علنًا. جمع ماركوس أدلة دامغة، صفحات ممزقة من سجلات الإمدادات تثبت الحجب المتعمد للأدوية المنقذة للحياة.
وصف ماركوس مواجهته الحاسمة مع ديفيس، حيث هدده الملازم بشدة، محذرًا إياه من عواقب البحث عن العدالة. في تلك الليلة، أمر ديفيس ماركوس بمهمة استطلاع منفردة وسط عاصفة ثلجية مميتة. فهم ماركوس أنها ليست مهمة، بل إعدام مدبر. دوّن آخر كلماته: “هذه ليست مهمة. إنها فخ”. في العاصفة، أُطلق النار عليه من الخلف، وغطت الثلوج الجريمة لعقود.
عاد بن هايز إلى أمريكا حاملاً الأدلة: المذكرات، تقرير الطب الشرعي، والرصاصة المستخرجة. دفن جده في مقبرة أرلينغتون الوطنية بكامل التكريم العسكري، لكنه سعى للعدالة. قدم الوثائق إلى قسم التحقيقات الجنائية بالجيش، مما أدى إلى تحقيق رسمي. جُرّد الملازم ديفيس، الذي أصبح نقيبًا متقاعدًا في فلوريدا، من جميع أوسمته. بسبب الزمن المنقضي وسنه المتقدم، لم تتم ملاحقته قضائيًا، مما ترك بن في مرارة، لكنه لم يستسلم.
نشر بن كتابًا عن القصة، يروي شجاعة جده والعنصرية التي واجهها، محولاً إرث ماركوس إلى درس تاريخي. أصبحت قصة العريف ماركوس هايز رمزًا للجنود السود في الحرب العالمية الثانية، الذين قاتلوا عدوين: النازيين والتمييز داخل جيشهم. حفظ الجليد الجثة والسر لخمسين عامًا، لكنه لم يمنع الحقيقة من الظهور. اليوم، تُروى القصة في المتاحف والكتب، تذكرنا بثمن الحقيقة والشجاعة في وجه الظلم.
اكتشاف جندي محفوظ في الجليد بعد ٥٠ عامًا ليس مجرد حدث أثري، بل كشف عن جريمة عنصرية دفنتها الحرب. ماركوس هايز لم يمت بطلاً مجهولاً، بل أصبح صوتًا يصدح ضد التعصب. إرثه يعلمنا أن التاريخ، مهما طال تجميده، سيذوب يومًا ويكشف أسراره. قصص الجنود السود في الحرب العالمية الثانية، جنود بافالو، تستحق السماع، فهي جزء من تاريخ أمريكا الحقيقي. الجليد احتفظ بالجثة، لكن الذاكرة احتفظت بالروح، والحفيد أعاد العدالة.
هذه القصة تسلط الضوء على العنصرية في الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية، وكيف أثرت على الجنود السود. اكتشاف الجثة في جبال الألب الإيطالية عام ١٩٩٤ غيّر فهم العائلة للتاريخ. المذكرات كشفت خيانة داخلية، وأدت إلى محاسبة رمزية. ماركوس هايز يمثل آلاف الجنود الذين ضحوا دون تكريم كامل. اليوم، تُستخدم قصته في التعليم لمكافحة التمييز. الحرب العالمية الثانية، جبال الألب، جنود بافالو، عنصرية عسكرية – كلمات تحمل دروسًا لا تنتهي.
 
								 
								 
								 
								 
								