كانت الشمس قد بدأت للتو بالتسلل بين أشجار الصنوبر عندما وجد المتنزهون الخيمة. كانت منصوبة هناك في منتصف الفسحة، كما لو أن أحدهم نصبها الليلة الماضية. كان القماش الأخضر لا يزال مشدودًا، والأوتاد مغروسة بقوة في الأرض الرطبة، وفانوس قديم صدئ يستقر بجانبه. لكن لم يكن هناك أي أثر للحياة. فقط صمت الغابة الدامس ورائحة كريهة عتيقة، تشبه رائحة الخشب والمعدن المتعفنين. اقترب أحد الرجال، ورفع القماش الممزق بحرص، وما رآه أوقفه عن الحركة: هيكل عظمي ملفوف في كيس نوم، وأصابعه لا تزال تمد سحّابه، كما لو أنه حاول الخروج… فات الأوان.

وقع الاكتشاف في صيف عام ٢٠٠٦، في منطقة نائية من منتزه ماونت رينييه الوطني بواشنطن. وصلت الشرطة بعد ساعات قليلة، برفقة خبراء الطب الشرعي وحراس المنتزه. في البداية، ظنوا أن الحادث ناجم عن عربة تخييم مفقودة، لكن الأغراض التي عُثر عليها في الموقع غيّرت كل شيء: كاميرا سوني موديل ١٩٩٠، ودفتر ملاحظات رطب ذو صفحات ممزقة، وراديو قديم، وبطاقة هوية باسم إيفان ويليامز ، الذي اختفى عام ١٩٩٤.

قبل اثني عشر عامًا، كان إيفان في السابعة عشرة من عمره، وكانت أمامه حياةٌ مليئةٌ بالطموح. كان فتىً هادئًا بابتسامةٍ خجولةٍ وشغفٍ بالتصوير. نشأ في تاكوما، على بُعد ساعةٍ من الجبال، وكان يقضي عطلات نهاية الأسبوع في التخييم مع والده، حتى توفي في حادث سيارة. منذ ذلك الحين، أصبح التخييم وسيلةً لتخليد ذكراه. في يوليو من عام ١٩٩٤، بعد تخرجه بفترةٍ وجيزة، قرر إيفان القيام برحلةٍ بمفرده، “مغامرةً أخيرةً قبل الجامعة”، كما كتب في ملاحظةٍ تركها على طاولة المطبخ. ظنت والدته أنه سيعود بعد يومين. لكنه لم يعد.
كان البحث مكثفًا. مشطت المروحيات وكلاب التعقب وعشرات المتطوعين الآثار. عثروا على سيارته متوقفة قرب نهر نيسكوالي، وعلى الخيمة المفقودة، وآثار أقدام تؤدي إلى أشجار الصنوبر. لم تكن هناك أي علامات على عراك. لم يكن هناك دم. كان الأمر كما لو أن الأرض ابتلعته. لسنوات، أبقت والدته ضوء الشرفة مضاءً، على أمل عودته يومًا ما. لكن في النهاية، حتى الأمل سئم الانتظار.
عندما أكد الضباط عام ٢٠٠٦ أن الرفات تعود لإيفان، بدت القضية محسومة. لكن ثمة أمراً غير منطقي. كانت الجثة داخل خيمة متينة، مغطاة ببطانية لم تكن موجودة في سجلات عام ١٩٩٤. لم تُظهر الأرض المحيطة بها أي أثر للعبث بها مؤخراً. بدا الأمر كما لو أن الزمن توقف عندها، جامداً المشهد لأكثر من عقد.
لاحظ الطبيب الشرعي شيئًا أغرب: ساعة إيفان الرقمية من كاسيو لا تزال على معصمه. أظهرت الشاشة الوقت المحدد الذي عُثر عليها فيه: 6:47 صباحًا. ووفقًا للفنيين، لا بد أن الساعة قد توقفت عن العمل منذ سنوات.
من بين الأشياء المُستردة، كان هناك شريط فيديو. تضررت الكاميرا، لكن أمكن إصلاح الشريط جزئيًا. في المقطع، ظهر إيفان مبتسمًا، يُنصبّ خيمته، يمزح مع الكاميرا، ويصف أصوات الغابة. ثم تغيرت نبرة الصوت. في الليل، سجّل شيئًا ما خارج الخيمة. همس قائلًا: “هناك أضواء في الأشجار. لا توجد رياح، لكنها تتحرك… تتحرك”. ثم انقطع الصوت. بعد ذلك، لم يُسمع سوى أنفاسه المُتقطعة، وصوت فرقعة عالٍ، وصوت معدني لم يستطع أحد تمييزه.
حلل الخبراء الفيديو لقطةً بلقطة. ادعى البعض رؤية ظلٍّ يتحرك خلف الخيمة، شخصية طويلة بلا وجه. بينما قال آخرون إنها مجرد خدعة بصرية. ولكن في اللحظة الأخيرة، قبل انقطاع التسجيل، سُمع صوته هامسًا: “إنه ليس حيوانًا”.
أعاد التحقيق فتح القضية. استجوبت الشرطة مُتنزهين كانوا في المنطقة في تسعينيات القرن الماضي. زعم أحدهم، وهو حارس منتزه متقاعد، أنه في ذلك الوقت كانت هناك منطقة مغلقة قرب الوادي، حيث حدثت “أشياء غريبة”: نيران مُخيمات تُشعل نفسها، وأصوات معدنية تحت الأرض، وحيوانات تختفي. قال: “رأيتُ بنفسي ذات مرة خيمة فارغة لم يُمسسها أحد. كما لو أن المُخيم استيقظ للذهاب إلى الحمام ولم يعد أبدًا”.
خلص خبراء الطب الشرعي إلى أن إيفان توفي نتيجة “انخفاض حرارة الجسم والجفاف”. إلا أن التقرير الرسمي تضمن تناقضات. فقد عُثر على علامات دائرية عميقة على عظم ذراعه اليمنى، يستحيل تفسيرها بحيوان أو سقوط. علاوة على ذلك، كانت الجثة في وضع يوحي بأنه زحف نحو المخرج قبل وفاته. وعلى قماش الخيمة، كُتبت رسالة تشبه الفحم: “لا تتبع الصوت”.
على مدار الأشهر التالية، وصل عشرات الفضوليين إلى موقع الاكتشاف. أفاد بعضهم بسماع صوت طنين تحت الأرض، بينما سمع آخرون ما وصفوه بـ”همهمة بعيدة، كما لو أن أحدهم يهمس من الغابة”. اختفى أحدهم، وهو مصور شاب، عام ٢٠٠٧. عُثر على كاميرته بجانب صخرة، موجهة نحو الفسحة. في الصورة الأخيرة، شوهد شخص غامض خلف الأشجار يراقب.
والدة إيفان، التي نجت كل تلك السنوات رغم تحطيم آمالها، زارت الموقع مرة واحدة فقط. قالت إنه عند وصولها، أصبح الهواء ثقيلاً، وساد صمتٌ “غير طبيعي” في الغابة. وصرحت لإحدى وسائل الإعلام المحلية: “لم أشعر بالخوف، شعرت أنه لا يزال هناك… ولكن ليس وحيداً”.
انتشرت الشائعات. قال البعض إن الموقع كان فوق منجم مهجور استُخدم خلال الحرب الباردة، بينما قال آخرون إن الحكومة أجرت تجارب على الموجات الصوتية. اختلطت هذه النظريات بأساطير الأمريكيين الأصليين القديمة، التي تحدثت عن روح غابة تُقلّد الأصوات البشرية لجذب السائرين الوحيدين. أطلقوا عليها اسم “تسي آك “، أي “الظل المُنادي”.
في عام ٢٠١٠، قرر محقق خاص يُدعى ريتشارد كول البحث بشكل أعمق. أمضى ثلاث ليالٍ يُخيّم على بُعد أمتار قليلة من الموقع الأصلي. كان يحمل معه مسجلات صوتية وكاميرات حرارية ومفكرة. كان سجله الأخير مشوّهًا: “أسمع وقع أقدام. لا أحد هناك. تُطفأ المصابيح الكهربائية تلقائيًا. الليلة سمعت أحدهم ينادي باسمي”. في صباح اليوم التالي، كانت خيمته فارغة. لم يُعثر على جثته قط. لم يُعثر إلا على مسجله، مدفونًا جزئيًا في الأرض، يُكرّر الصوت نفسه بشكل متكرر: دويّ، يتبعه همس غير مفهوم.
أُغلقت المنطقة رسميًا منذ ذلك الحين بسبب “المخاطر الطبيعية”. لكن سكان المناطق المجاورة أفادوا بأنهم يرون أضواءً خافتة تتسلل عبر الأشجار في الليالي الضبابية. وتنبح الكلاب بلا سبب. ويدّعي من يبتعدون سماع صوت خافت مألوف ينادي باسمهم.
يعتقد البعض أن الغابة تحمل أصداءً لضحاياها. ويقول آخرون إنها شيء أقدم، شيء لم يكن بشريًا قط. لكن الحقيقة هي أنه منذ العثور على الخيمة، لم يخيم أحد في تلك الفسحة. يبدو أن الأرض تمتص خطواتهم، والهواء يحمل رائحة معدنية، مطابقة لتلك التي شممها رجال الإنقاذ صباح يوم عثورهم على رفات إيفان.
مرّ أكثر من ثلاثين عامًا على اختفائها، لكن قصتها لا تزال حية، يرويها أقدم الحراس بصوتٍ خافت. يقولون إنه في كل ربيع، عندما تهب رياح الشمال، تظهر الخيمة في مكانها نفسه، منصوبة بإتقان، كما لو أن أحدهم نصبها للتو. لا أحد يجرؤ على لمسها. يزعم البعض أنهم رأوا ظلًا في الداخل، منحنيًا، يتنفس ببطء.
ربما يكون مجرد صدى لمأساةٍ تجمدت في الزمن. أو ربما لم تدعه الغابة يرحل. فهناك أماكن لا يعني فيها الصمت السلام، بل الانتظار. وفي تلك الزاوية المنسية من واشنطن، بين أشجار الصنوبر العتيقة والضباب الكثيف، ينادي صوتٌ شابٌّ مألوف: “تعال، خيّم معي ليلةً أخرى”.