😱في الحر الخانق لساحل جورجيا عام 1841، حيث يتدلى الطحلب الإسباني من أشجار البلوط كستائر حداد ثقيلة، والهواء مشبع برائحة الملح الحادة والتعفّن، ظل سرٌّ مدفوناً لما يقرب من قرنين من الزمان تحت رماد أنقاض مزرعة شاسعة تحمل اسم «راحة سارافيم» – المكان الذي وعَد اسمه بالسكينة، لكنه لم يحمل سوى الرعب.

في أعماق الساحل الجورجي الرطب والخانق عام 1841، حيث يتدلّى الطحلب الإسباني من أشجار البلوط العتيقة كأكفانٍ رمادية ثقيلة، ويحمل الهواء رائحة الملح المالح ممزوجة بعطن المستنقعات، كان هناك سرٌّ مروّع ظلّ مدفوناً قرابة مئتي عام تحت رماد مزرعةٍ شاسعة تحمل اسم «راحة سارافيم» (Saraphim’s Rest). اسمٌ يوحي بالسلام الأبدي، لكنه في الحقيقة كان مسرحاً لكابوسٍ يفوق قدرة العقل البشري على التصديق.

البطلة الوحيدة لهذا الكابوس كانت امرأةً تُدعى آرا فانس (Aara Vance)، أرملةٌ في الثلاثين من عمرها، وجهها كتمثال بورسلين بارد، وعيناها الزرقاوان الشاحبتان تخفيان بروداً يشبه الثلج. في ليلةٍ بلا قمر من مايو 1841، توفي زوجها أوغسطس فانس، أحد أغنى ملاك الأراضي في جورجيا، فجأةً. السبب الرسمي: سكتة دماغية. لكن الطبيب أليستير فينش، الذي هرع إلى المزرعة، لاحظ أموراً غريبة: الجثة متشنجة بعنف، العينان جاحظتان كأن صاحبهما رأى الجحيم، ورائحةٌ كيميائية حادة تخترق عبق البراندي. وفوق كل ذلك، وقفت الزوجة آرا عند النافذة مع بزوغ الفجر، هادئةً تماماً، بل راضية. قالت بصوتٍ ناعم كالحرير: «شرب برانديه كعادته… ثم جاءت التشنجات… انتهى الأمر بسرعة». لم تبكِ. لم ترتجف. ابتسمت ابتسامةً خفيفة جعلت دم الطبيب يتجمد في عروقه.

مع دفن أوغسطس، انتهت حياة آرا القديمة وبدأت حياتها الحقيقية. كانت قد تزوجت في السابعة عشرة من رجل يكبرها بضعف العمر، زواج ترتيبٍ تجاري لا أكثر. أنجبت بنتين، لكنها فشلت في إنجاب الوريث الذكر المنشود، فحوّلها زوجها إلى شبحٍ في قصره الخاص: يتجاهلها، يحتقرها، يعاملها كإناءٍ مكسور. لكن العزلة لم تُضعفها؛ بل نحتتها كالنحات ينحت الصخر. أمضت سنواتٍ طويلة في المكتبة، تطلب كتباً نادرة من فيلادلفيا ولندن عن الطب، التشريح، «الطاقات الحيوية»، و«نقل الأخلاط». كان لديها صندوقٌ حديدي مغلق في غرفة جلوسها ينبعث منه عبقٌ حلو ممزوج برائحة التعفّن.

بعد أسبوعٍ واحد من الجنازة، تغيّر كل شيء في «راحة سارافيم». طُرد المشرف القديم، وصارت كل الأوامر تصدر مباشرةً من السيدة. وكل يوم ثلاثاء، حين يهبط الضباب الكثيف من المستنقعات حتى يبتلع الأصوات، كان مصباحُ الحارس يتحرك ببطء نحو كوخ أحد العبيد الأشداء. أول الضحايا كان سايلس، رئيس الإسطبلات، رجلٌ هادئ وقويّ محترم من الجميع. ثم ياكوب الحداد الفتيّ العنيد ذو العضلات كأعمدة الحديد.

كان الأمر نفسه دائماً: يُؤمر الرجل بخلع قميصه والاستلقاء على سرير السيدة دون حراك، اليدين إلى جانبي الجسم، لا كلام، لا نظر، لا أي حركة. هي لا تلمسه. تجلس بجانبه أو تقف، تراقبه ساعاتٍ طويلة، تتنفس ببطءٍ منتظم كآلة، وتكتب ملاحظاتٍ دقيقة في دفترٍ جلدي صغير. أحياناً كانت تضع مسدساً فضياً صغيراً على المنضدة لتذكّره بالثمن. وإذا تردد، كانت تذكّره بأسماء زوجته وأولاده.

في الصباح يعود الرجل إلى كوخه مكسوراً. تبدأ يداه في الارتجاف، تتلاشى شهيته، يصاب بالأرق، وتذوي عضلاته يوماً بعد يوم حتى يتحول إلى ظلٍّ لنفسه السابقة. العبيد أطلقوا على ذلك «سرقة الروح». الدكتور فينش، بعد فحص عدة حالات، كتب في تقريره السري: «لا مرض معروف يُسبب هذا. إنه شيءٌ غير طبيعي تماماً».

في دفترها، كشفت آرا عن جنونها العبقري: كانت تعتقد أن الخوف المطلق قادر على فصل «الجوهر الحيوي» الذكوري عن الجسد. بإجبار الضحية على الشلل التام – جسدٌ جامد وعقلٌ مستيقظ – يمكن امتصاص هذه الطاقة وتحويلها إلى قوةٍ داخل جسدها هي. كانت تريد تعويض فشلها في إنجاب ولد، وإنقاذ سلالة فانس بطريقةٍ بيولوجية شيطانية لم يسبق لها مثيل. غرفة نومها تحولت إلى مختبر، والمزرعة بأكملها إلى سجنٍ تجريبي هائل.

وصلت الأقاويل أخيراً إلى شقيقها الأصغر جوليان ديفو في سافانا. جوليان كان الاستثناء الطيب في عائلةٍ متكبرة، فراح بنفسه ليتأكد. ما رآه في المزرعة جمّد الدم في عروقه: صمتٌ مخيف يغطي الحقول، رجالٌ أقوياء صاروا هياكل ترتجف، وأخته تتحكم في كل شيء بابتسامةٍ رخامية. حاول التظاهر بالضيف ثلاثة أيام، لكن في الليلة الثالثة شهد عقاباً وحشياً علنياً للعبد ياكوب الذي حاول الهرب بعد ليلته المرعبة: عشرات السياط حتى غُطّيت ظهره بالدم. نظرت آرا إلى أخيها مباشرةً وقالت بعينيها: «هذا عالمي. أنت لا تنتمي إليه».

هرب جوليان تحت المطر الغزير إلى منزل الدكتور فينش في برونزويك، نصف مجنون. هناك، تحت ضوء المصابيح الخافت، جمع الرجلان كل القطع: الوفاة المسمومة، الأعراض الغامضة، الاستدعاءات الليلية، والدفتر الجلدي الذي يحتوي على كل شيء بخط يدها. قررا أن الدليل الوحيد الذي يمكنه تدميرها هو ذلك الدفتر.

لكن قبل أن يتمكنا من العودة، اندلع حريقٌ هائل في المزرعة ليلةً خريفية من عام 1841. احترقت «راحة سارافيم» بأكملها، ولم ينجُ أحدٌ من سكانها الرئيسيين. قيل إن آرا ماتت داخل غرفتها، لكن جثتها لم تُعثر عليها أبداً بين الرماد. الدفتر اختفى… أم هكذا ظن الجميع.

في عام 1938، عُثر على الدفتر نفسه في علّية منزلٍ قديم في تشارلستون، ملفوفاً بقماشٍ متعفن، وبجانبه ورقةٌ صغيرة بخط امرأة: «إذا قرأتم هذا، فهي لم تمت بعد».

حتى اليوم، يرفض سكان مقاطعة غلين المرور ليلاً بجانب الأرض المحترقة. يقولون إنه في ليالي الثلاثاء بلا قمر، يمكن رؤية ضوءٍ خافت يتحرك ببطء بين الأنقاض… وسماع تنفّسٍ بطيء، منتظم، كمن ينتظر الضحية التالية.

سر آرا فانس لم يمت معها. بعض الأسرار، مثل الطحلب الإسباني، تستمر في النمو في الظلام الأكثر كثافة.

Related Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *