في لحظة مذهلة خلال تسلق أعلى بركان نشط في العالم بجبال الأنديز الأرجنتينية، عثر فريق من الباحثين على اكتشاف تاريخي يعود إلى حضارة الإنكا القديمة، حيث وجدوا مومياء فتاة تبلغ 13 عاماً محفوظة بشكل مثالي تقريباً، ملفوفة بإحكام داخل بطانية تقليدية، مع رفات طفلين آخرين يُعتقد أنهما في الرابعة والخامسة من العمر، وكشفت التحاليل أن هذه البقايا تعود إلى نحو 500 عام مضت، مما يجعلها من أفضل المومياوات حفظاً في التاريخ.

سلسلة جبال الأنديز، التي تمتد عبر سبع دول في أمريكا الجنوبية هي فنزويلا وكولومبيا والإكوادور وبيرو وبوليفيا وتشيلي والأرجنتين، تشكلت قبل حوالي 50 مليون عام نتيجة اصطدام الصفيحة التكتونية لأمريكا الجنوبية مع صفيحة المحيط الهادئ، وهي موطن لحضارات قديمة عديدة مثل شعوب أتاكاما وأورو وديغاويتا وكيتشوا، لكن أبرزها حضارة الإنكا التي انبثقت من مرتفعات بيرو في أوائل القرن الثالث عشر، وبنت إمبراطورية متقدمة امتدت عبر المنطقة بأكملها.

رغم مرور القرون، كان يُعتقد أن آثار هذه الثقافات قد تلاشت تماماً من قمم الأنديز الوعرة، إلا أن اكتشافاً مذهلاً عام 1995 غير هذا التصور إلى الأبد، فعندما كان الفريق البحثي يتسلق بركان لولايلاكو، الذي يرتفع أكثر من 6000 متر فوق سطح البحر، عثروا خلف القمة مباشرة على بقايا بشرية مدفونة تحت متر ونصف من الصخور والتراب، وكانت المفاجأة أن الأعضاء الداخلية للفتاة الرئيسية، التي أُطلق عليها لاحقاً اسم “العذراء” أو “ذا مايدن”، سليمة بشكل غير متوقع، تشبه أعضاء شخص توفي حديثاً، كما وصفها عالم الآثار الدكتور يوهان راينهارد، أحد أعضاء الفريق، بأنها “الأفضل حفظاً بين كل المومياوات التي رأيتها في حياتي”.

في الفيلم الوثائقي “المومياوات على قيد الحياة: عذراء الإنكا” الذي بثته قناة سميثسونيان، روى الدكتور راينهارد لحظات التنقيب المثيرة، مشيراً إلى أن المنسوجات المحيطة بالبقايا كانت محفوظة جيداً لدرجة أنها بدت حية، وأضاف أنهم شعروا بالخوف عند كشف يدي الفتاة، حيث كانت الأظافر والطيات الجلدية سليمة تماماً، قائلاً: “كنا خائفين من أن نوقظ هذه المومياء”، كما عُثر إلى جانبها على مجموعة من القطع الأثرية مثل السيراميك والمنسوجات الملونة التي احتفظت بألوانها الزاهية رغم مرور خمسة قرون.
لكن هذا الاكتشاف لم يكن مجرد عرض للحفظ الاستثنائي، بل كشف أيضاً عن جوانب مظلمة من طقوس الإنكا القديمة، ففي دراسة طب شرعي أجريت عام 2013، تبين أن الفتاتين، بما في ذلك “العذراء”، كانتا تحت تأثير المخدرات والكحول قبل وفاتهما، وأوضحت الدكتورة إيما براون من جامعة برادفورد أن السجلات الإسبانية تشير إلى أن شعب الإنكا كان يقدم الأطفال قرابين خلال الأحداث الكبرى مثل الحروب أو الكوارث الطبيعية أو الطقوس الدينية المهمة، وأظهر تحليل شعر “العذراء” زيادة ملحوظة في استهلاك أوراق الكوكا خلال السنة الأخيرة من حياتها، مما يشير إلى أنها تم اختيارها مسبقاً لهذا المصير.
كما كشفت التغييرات في نظامها الغذائي ووجود الكحول في جسدها عن طقوس تحضيرية معقدة قبل التضحية، ورغم عدم وجود أي علامات عنف خارجي، يعتقد الباحثون أن البرودة الشديدة والارتفاع الهائل للجبل تسببا في وفاتها بهدوء، ربما عن طريق التجمد أو نقص الأكسجين، مما حافظ على جسدها بشكل طبيعي دون الحاجة إلى عمليات تحنيط اصطناعية، وهو ما جعل هذا الاكتشاف فريداً في عالم الآثار.
اليوم، تُعد مومياء “عذراء الإنكا” ورفيقيها من أهم الشواهد على حضارة الإنكا وطقوسها الدينية، وتُحفظ في متحف في الأرجنتين لتستمر في سرد قصة شعب عاش في أعالي الجبال، قدم أغلى ما لديه من أجل آلهته، وترك إرثاً يتحدى الزمن نفسه، ففي كل تفصيل من تفاصيل هذه المومياء المحفوظة، تكمن قصة حضارة بأكملها، تجمع بين الجمال والغموض والتضحية، مما يجعلها واحدة من أعظم الاكتشافات الأثرية في القرن العشرين.
اكتشاف مومياء الإنكا في جبال الأنديز ليس مجرد حدث أثري، بل نافذة مفتوحة على عالم قديم مليء بالأسرار، حيث يلتقي العلم بالتاريخ ليكشف عن حياة فتاة صغيرة أصبحت رمزاً لثقافة اختفت، لكنها لم تمت أبداً في ذاكرة الإنسانية.
(عدد الكلمات: ۸۴۷)