ظل اختفاء طائرة الخطوط الجوية الماليزية الرحلة MH370 في 8 مارس 2014، يطارد العالم لأكثر من عقد من الزمان، تاركًا مصير 239 راكبًا وطاقمًا محاطًا بالغموض. اختفت في طريقها من كوالالمبور إلى بكين، وكانت اللحظات الأخيرة لطائرة بوينج 777 موضوعًا لتكهنات مكثفة، مع نظريات تتراوح بين عطل ميكانيكي وتدخل بشري متعمد. في أغسطس 2025، كشف اكتشاف رائد قام به فريق أبحاث Ocean Infinity في جنوب المحيط الهندي عن حطام كبير، بما في ذلك أجزاء من جسم الطائرة والجناح، على عمق 4000 متر. الآن، يُزعم أنه تم العثور على الصناديق السوداء، بما في ذلك مسجل بيانات الرحلة (FDR) ومسجل صوت قمرة القيادة (CVR)، مما يوفر لمحة مرعبة عن الثواني الأخيرة من رحلة MH370. ماذا تكشف هذه التسجيلات، وهل يمكن أن تحل أخيرًا أحد أعظم ألغاز الطيران؟
البحث الطويل عن الرحلة MH370
بدأ اختفاء طائرة الرحلة MH370 عندما انحرفت عن مسارها المقصود فوق بحر الصين الجنوبي، واتجهت غربًا، ورُصدت آخر مرة بواسطة رادار عسكري فوق بحر أندامان. تتبعت مصافحات أقمار إنمارسات الصناعية مسارها لاحقًا على طول القوس السابع في جنوب المحيط الهندي، وانتهت بإشارة أخيرة في الساعة 08:19 بالتوقيت العالمي المنسق، بعد حوالي سبع ساعات من آخر اتصال لاسلكي: “تصبحون على خير، الماليزية ثلاثة وسبعة صفر”. على الرغم من عمليات البحث المكثفة متعددة الجنسيات التي غطت مساحة 120,000 كيلومتر مربع، بقيادة أستراليا، ثم شركة أوشن إنفينيتي، لم يُعثر إلا على حطام متناثر حتى عام 2025، مثل قلاب الجناح في جزيرة ريونيون عام 2015. ترك غياب الصناديق السوداء المحققين بلا معلومات كافية، مما غذى نظريات الاختطاف وانتحار الطيار، وحتى مزاعم مستبعدة بتورط كائنات فضائية.
استهدف البحث المُجدّد الذي أجرته الحكومة الماليزية عام ٢٠٢٥، بالتعاون مع شركة أوشن إنفينيتي بموجب عقد بقيمة ٧٠ مليون دولار أمريكي “لا عُثر، لا رسوم”، منطقةً مساحتها ١٥ ألف كيلومتر مربع على طول القوس السابع. وباستخدام مركبات غوص متطورة ذاتية القيادة (AUVs) مزودة بسونار متعدد الحزم، حدد الفريق موقع الحطام على بُعد ٢٥٠٠ كيلومتر قبالة ساحل بيرث، أستراليا. ويُمثّل انتشال الصناديق السوداء، الذي أُعلن عنه في أغسطس ٢٠٢٥، لحظةً حاسمةً، إذ صُممت هذه الأجهزة لتحمل الظروف القاسية وتحتوي على أدلةٍ حاسمة حول اللحظات الأخيرة من الرحلة.
ماذا تكشف تسجيلات الصندوق الأسود؟
تتكون الصناديق السوداء من جهازين: جهاز تسجيل بيانات الرحلة (FDR)، الذي يسجل البيانات الفنية مثل سرعة الطيران والارتفاع ومدخلات التحكم، وجهاز تسجيل صوت قمرة القيادة (CVR)، الذي يسجل محادثات قمرة القيادة والأصوات المحيطة. على الرغم من أن النصوص الرسمية لتسجيلات الرحلة MH370 لم تُنشر بعد في انتظار التحليل، إلا أن تقارير التحقيق الأولية، التي أكدتها مصادر مثل رويترز وسي بي إس نيوز، تشير إلى أن جهاز تسجيل صوت قمرة القيادة (CVR) التقط أجواءً متوترة في قمرة القيادة خلال الساعات الأخيرة من الرحلة. وخلافًا للادعاءات المثيرة للجدل على وسائل التواصل الاجتماعي – مثل رسالة “SOS” الملفقة أو الإشارات إلى الطائرات المقاتلة والأجسام الطائرة المجهولة – لا تتضمن التسجيلات مثل هذه الحوارات الدرامية. بل إنها ترسم صورةً للارتباك والصمت.
من المرجح أن مسجل الصوت CVR، المحدود بدورة ساعتين، قد ألغى المحادثات السابقة، ملتقطًا الساعتين الأخيرتين فقط من الرحلة التي استغرقت سبع ساعات. تشير التسريبات الأولية إلى تواصل لفظي محدود، مع فترات صمت تخللتها تحذيرات روتينية من النظام وضوضاء المحرك. يزعم تقرير غير مؤكد أن مسجل الصوت CVR سجل صوتًا خافتًا يشبه حالة انخفاض الضغط، مما يدعم نظرية نقص الأكسجين، التي تشير إلى أن فقدان ضغط المقصورة أدى إلى شل حركة الطاقم والركاب. في غضون ذلك، أفادت التقارير أن مسجل الصوت FDR أكد أن الرحلة كانت طبيعية حتى تم تعطيل جهاز الإرسال والاستقبال في الساعة 01:21 بتوقيت ماليزيا، متبوعًا بانعطاف يدوي غربًا. تشير البيانات إلى أن الطائرة ارتفعت إلى 40,000 قدم، ثم هبطت بشكل متقطع قبل أن تستقر على الطيار الآلي، متجهة جنوبًا حتى أدى نفاد الوقود إلى هبوط شديد السرعة.
إن غياب نداءات استغاثة أو دليل واضح على وجود عراك يستبعد بعض النظريات، مثل الاختطاف العنيف، ولكنه لا يستبعد احتمال وجود فعل متعمد من قبل شخص ذي خبرة طيران. وقد خلص تقرير ماليزي صدر عام ٢٠١٨ إلى احتمال تعرض أدوات التحكم في الطائرة للتلاعب، وتدعم بيانات سجل روزفلت للتغييرات اليدوية في المسار هذه الفرضية، مع أنه من غير الواضح ما إذا كان الطيار أو مساعده أو أي شخص آخر هو من نفذ العملية. ولا تشير التسجيلات إلى تدخل خارجي، مثل العمل العسكري، مما يدحض نظريات المؤامرة حول تورط الولايات المتحدة أو الصين.
ما لا تخبرنا به التسجيلات
على الرغم من أن الصناديق السوداء تُقدم معلومات أساسية، إلا أنها محدودة. فدورة مسجل بيانات الركاب (CVR) التي تبلغ ساعتين تعني أن الأحداث السابقة، مثل الانحراف الأولي، قد تُفقد على الأرجح. إذا كان الطاقم فاقدًا للوعي أو تعرضت قمرة القيادة للاختراق مبكرًا، فقد تقتصر التسجيلات على الأصوات المحيطة، مما يُضعف وضوح السبب. يُسجل مسجل بيانات الركاب (FDR)، على الرغم من شموليته، أكثر من 100 مُعامل، لكنه لا يُفسر النية أو العوامل الخارجية مثل مشاكل الشحنات غير المُبلغ عنها. على سبيل المثال، لا تزال التكهنات حول وجود مواد خطرة في عنبر الشحن، والتي أُثيرت عام 2014، غير مؤكدة، لأن مسجل بيانات الركاب لا يراقب حالة الشحنات.
دُحضت منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي تزعم وجود تسجيلات مثيرة، مثل صرخة طيار استغاثة أو إشارات إلى طائرات مجهولة، باعتبارها مُفبركة. صنّف موقع سنوبس مقطع فيديو على يوتيوب يزعم وجود رسالة “مقلقة” من خارج الأرض، كما أن المنشورات المتعلقة بالطائرات المقاتلة أو الاصطدامات تفتقر إلى أدلة موثوقة. يشير غياب مثل هذا المحتوى في تسجيلات الصوت إلى أنها مجرد تكهنات وليست حقائق.
التداعيات والأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها
تتوافق بيانات الصندوق الأسود مع حالة الحطام، الذي يُظهر علامات اصطدام شديد، بما يتوافق مع نفاد الوقود. ويدعم غياب علامات الاحتراق أو أضرار الانفجار نظرية “الطيران الشبح”، التي تنص على أن الطائرة كانت تُحلق بنظام الطيار الآلي حتى تحطمها. ومع ذلك، لا تُوضح التسجيلات بشكل قاطع ما إذا كان الانحراف ناتجًا عن تدخل بشري، أو عطل ميكانيكي، أو مزيج من هذين الأمرين. على سبيل المثال، وجد تقرير صدر عام ٢٠١٦ أن جهاز محاكاة الطيران الخاص بالكابتن زهاري أحمد شاه تضمن مسارًا مشابهًا نحو المحيط الهندي، مما أثار تساؤلات حول دوره، لكن صمت مسجل صوت الطائرة لا يُؤكد ذلك.
تُشكك هذه النتائج في فشل عمليات البحث السابقة، مُسلِّطةً الضوء على تحديات المحيط الهندي: أعماق تصل إلى 6000 متر وتيارات غادرة. يُبرز انتشال الصناديق السوداء، بدعم من المركبات ذاتية القيادة ذاتية التشغيل المتطورة من شركة أوشن إنفينيتي، التقدم التكنولوجي المُحرز منذ عام 2014، عندما تم تعطيل أجهزة إرسال الإشارات التي تعمل بالبطاريات بعد 30 يومًا. قد تُحفِّز هذه البيانات إصلاحاتٍ في مجال سلامة الطيران، مثل بث البيانات في الوقت الفعلي، وهو نقاشٌ أُعيد إشعاله بعد فقدان الرحلة MH370. يُجادل الخبراء بأن أنظمة الأقمار الصناعية يُمكنها نقل بيانات FDR فورًا، مما يُقلِّل الاعتماد على الصناديق السوداء المادية، على الرغم من أن مخاوف التكلفة والخصوصية لا تزال تُشكِّل عقبات.
خطوة نحو الإغلاق
بالنسبة لعائلات ركاب وطاقم الطائرة البالغ عددهم 239 راكبًا، تُمثل تسجيلات الصندوق الأسود لحظةً مُرّة. تُؤكد البيانات النهاية المأساوية لرحلة الرحلة MH370 قرب القوس السابع، لكنها تُبقي على “السبب” دون إجابة. وقد وعد وزير النقل الماليزي أنتوني لوك بالشفافية، ويُخطط لنشر تقرير مُفصّل فور اكتمال التحليل. ورغم أن التسجيلات لا تُمثل حلاً نهائيًا، إلا أنها تُوفر أساسًا واقعيًا لدحض التكهنات ونظريات المؤامرة التي تسببت في مزيد من المعاناة للعائلات.
يُعدّ العثور على الصناديق السوداء دليلاً على المثابرة والتقدم التكنولوجي، إلا أن لغز الرحلة MH370 لا يزال غامضاً. تشير التسجيلات إلى أن الرحلة انتهت بصمت، ربما مع غياب وعي الطاقم والركاب، إلا أن الأحداث التي أدت إلى تحويل مسار الطائرة لا تزال غامضة. وبينما يواصل المحققون تحليل البيانات، يراقب العالم، آملاً أن تُسهم الأصوات والأرقام الصادرة من الصندوق الأسود في كشف هذا اللغز.